بدأت ليلة الزفاف
بقلم : مجدي السماك
ألآن بدأت ليلة الزفاف . صار فواز عريسا ، قد لا يعرفه من يراه بشعره
المصفف النظيف اللامع والمدهون بالكريم ، وبذلة الفرح السوداء التي اشتراها
من البالة ، رغم أنها مستعملة لكنها تبدو جديدة وقد غيرت شكله وقلبته رأسا
على عقب ، وإن كان في جيبها الجانبي ثقب صغير لا يظهر لأحد ، ثقب ابتلع
قطعة نقود صغيرة إلى جوف البدلة ويئس فواز من التقاطه بعد محاولات عديدة ،
فأحال أمره إلى وقت آخر ريثما ينتهي من مراسيم الفرح وطقوس ليلة الدخلة ،
هذه الليلة التي انتظرها من سنين طوال ، وكاد قلبه أن يتوّرم من أجلها ..
فهو متشوق إلى درجة أنه فكر بصرف المدعوين وتقديم عقارب الساعة ، كي يختصر
الساعات ويصل بسرعة إلى ليلة عمره .
ما أن أصبح فواز وعروسه سهير داخل بيت الزوجية الضيق كعلبة السجائر ، حتى
حملها بين ذراعية القويين والرفيعين كساقي خروف ، وبقدمه اليمنى بدأ خطاه
متجها بها إلى غرفة النوم النظيفة والمرتبة بعناية ، مبتسما ، وقد لاحت في
عينيه نظرات لها بريق أخاذ .. بريق به دفقات من خفايا قلبه ووراءه رعشة
حياة ، وهي نظرات تقول كلاما فصيحا بلا أي كلمات ، وقد فهمتها سهير وسبرت
أغوارها .. من المؤكد أنها فهمتها .. فهي من الراسخات في معاني الصمت ، بل
ليس بمقدورها ألا تفهمها ، رغم ما غشيها من توتر ، وما حل بها من حياء ..
فألذ أنواع الكلام إلى قلبها وأفصحه إلى عقلها هو ذلك الذي لا يقال .. بل
هي على يقين أن للقلوب السنة لا تسمعها الآذان .
وضع كفا أسفل خاصرتها فوق عظمة الحوض ، وكفا على كتفها ، وأمال رأسه إلى
الأمام لينال قبلة ساخنة من فمها المنتظر بشوق ، والملسوع بالرغبة ، لكنها
رفعت رأسها قليلا بلا شعور منها ، فسقط فمه على أحد ثقبي أنفها الصغير،
فغرقت بالخجل الذي تلبد به وجهها الأسمر والمدّور كقرص البيتزا ، وبالكاد
ظهر على وجهها ابتسامة مكسوفة ، فطأطأت رأسها وقد أمالته قليلا إلى اليسار ،
ليرتفع كتفها الأيسر قليلا عن كتفها الأيمن في محاولة منها لإخفاء الحياء
وكتم الخجل ، وراح هو بالضحك الواني ، المتبوع بابتسامات عريضات ملأت كل
أصقاع وجهه الطويل من أوله إلى آخره ، فبرز كل ما به من هضاب وتلال ..
طبيعي أن يضحك الآن ، فهو الذي كان يتمنى أن يصاب بعاهة العمى أو الطرش ،
أو حتى أي عاهة ، في سبيل أن يصبح عريسا لابنة حلال جميلة و طيبة مثل سهير
.. ها هو الآن معها عريس لها بلا أي عاهة ، وإن كان جسمه نحيلا كالمّسلة ،
ورغم ما قاساه من شقاء عندما كان يجمع النقود قليلها إلى أقلها حتى وصل إلى
غايته ، ونال هذه الليلة المبتغاة .. فهو مثل بقية شبان الحارة ، بالعادة
يتزوجون ، وبالعادة ينجبون ، وبقوة إرادة الحياة يعيشون .. هكذا هم ..
يأخذون الدنيا غلابا .
دخل فواز إلى الحمّام ، ثم تخلص بسرعة ولهفة من كل شيء يستر جسده النحيل ،
لم يبق سوى ساعة يده المقاومة للماء ، التي اشتراها من يومين بخمسة دولارات
، وأخذ بشدة يفرك أسنانه المتباعدة بالفرشاة المغطاة بمعجون له طعم
النعناع ، فأنعش فمه ورطب حلقه حتى أطراف بلعومه ، فأزال من فمه رائحة دخان
السجائر الساطعة كرائحة ألفنيك ، فصارت أسنانه تلمع مثل الزجاج المغسول ،
ثم مدّ يده و فتح صنبور الماء لينعم بحمّام ساخن ولذيذ ، كي يزيل ما علق
بجلدة الخشن كورق الصنفرة من عرق ، ويخفف ما يسري بجسده المنهنه من تعب ..
بهمّة أخذ يدعك جسمه بقطعة ليف جديدة محاطة بالقماش ، اشتراها خصيصا من أجل
ليلة العمر هذه ، فتغطى جسده برغوة الصابون وفقاعاته ، حتى بدا كأنه وسط
كومة من القطن الأبيض المندوف المستعمل في العيادات ، ثم راح يفرك رأسه
بشامبو له رائحة الفراولة ومخلوط بالفيتامين ، فخرجت الرغوة من بين أصابع
كفيه كالعجين .. في هذه الأثناء على غفلة منه بسبب تسرعه وقلة صبره ، تزحلق
ووقع أرضا فارتطم رأسه بالحائط ، لكنه وقف ثانية ميتا من الخوف كالملدوغ
من عقرب ، ومقطوعة أنفاسه من الفزع والهلع ..
- يا سهير .. يا سهير .. أين أنت .
- نعم .. أنا هنا .
- لقد عميت .. لا أرى شيئا .. حتى أصابع كفي لا أراها .
- لا تقلق . الكهرباء .. لقد قطع التيار الكهربي .
- " الله يلعن أبو الكهربة على أبو يومها " .. وبعدين مع هذا الحال ! من سنين وأنا انتظر هذه الساعة .. أشعلي شمعة !
لكن سهير حديثة العهد في هذا البيت ، فلا تعرف أماكن الأشياء ، فأخذت تمشي
بهدوء متخبطة و تتلمس الأشياء كالعمياء ، تحسس بيديها في هذه الظلمة
الحالكة لليل ساكت ، فشبك طرف فستان الفرح الأبيض الناصع مثل اللبن الزبادي
بطرف مسمار بارز في كرسي خشبي فشقه ، سمعت صوت تمزقه وكأنه شرخ في قلبها ،
فهو فستان مستعار بالأجرة لهذه الليلة المنتظرة من سنين ، فجلست جانبا
مستكينة ، صامتة ، كأنها تحصي أنفاسها اللاهثة المتقطعة ، وتبني على خديها
بمناديل من الورق الناعم سدودا تصد بها تيارات الدموع المتدفقة من عينيها
الجميلتين .. على حين أخذ هو يحاول بعصبية فتح باب الحمام ، الذي تعطّل ولم
يفتح أبدا ، فقد خرب الزرفيل .. وصار مثل الحمار الذي يحرن عن المشي .. ها
هو الوقت قد جاوز منتصف الليل بكثير ، والدنيا نائمة في عتمة داجية ،
والنهار بعيد ، والصمت جاثم على الصدور ، صمت لا يقطعه سوى صمت آخر هو صوت
الليل الممطوط المعتم بإصرار عنيد .
وقع في يد سهير قطعة شمع بحجم عقلة الإصبع ، فأشعلتها واستبدلت الفستان
الأبيض بملابس أخرى .. بينما جلس فواز في الحمام على كرسي بلاستيكي واضعا
وركا فوق ورك ، بعد أن اضطر لارتداء نفس ملابسه المتسخة بالعرق ، وأخذ يخفف
عن سهير مصابها بالفستان المشقوق ، ووعدها أن يشتري لها مثله عند خروجه
بالسلامة من الحمّام ، رغم يأسه من امتلاك ثمنه في يوم من الأيام ، إلا أن
كلامه كان لقلبها بلسما ، فهدأت أعصابها بعد أن تأوهت تأويهة طويلة وساخنة
كالصهد .
بينما هو كذلك حثها على الاقتراب من باب الحمّام ، وأخذ ينقر بطرف سبابته
محددا بقعة تضع عليها خدها كي يقبلها من خلال خشب الباب ، وأخذ يرسل قبلات
لها صوت أشبه بزامور دراجة هوائية ، طربت لها سهير حتى سرت في جسدها رعشة
وأغمضت عينيها بوله هائمة كالمخدرة بالبنج ، وهو متيقن أن خدها وفمها يقعان
في المجال الحراري للقبلة .. ثم تسلل كفه إلى جيبه فعثر على حبتين من
الملّبس ، فأرسل إليها واحدة من تحت عقب الباب ، فهّرستها بلين بين فكيها ،
أما هو فوضع الحبة في فمه وأخذ ينقلها من جانب إلى آخر ويطرب لقرقرة
اصطدامها بأسنانه .. وتحفز للكلام فراح يحدثها عن المستقبل ورغبته بإنجاب
ولد يعلمه الصحافة ، أو المحاماة ، وأن يختار له اسما ناعما كالموسيقا
الهادئة ، بينما عبرت هي عن رغبتها بإنجاب بنت تختار لها اسمها وتعلمها
المحاسبة ، ثم أخذا يضحكان كثيرا ، نوبات متتابعة من الضحك الصاخب حتى
أمطرت العيون .. لكن الصمت ساد من جديد ، فشعرت سهير بالوحشة ، مما اضطره
إلى مؤانستها بالمزيد من الحديث الجميل عن المستقبل ، وأخذ يقول لها نكات
جعلتها تضحك حتى سالت على خديها قطرات الدموع باردة كحبيبات الثلج .. لكن
ذلك لم يمنعها أن تسأله ..
- إلى متى سنبقى بلا كهرباء ؟
- إلى أن تمدنا إسرائيل بالوقود .
- ومتى ستمدنا إسرائيل بالوقود ؟
- عندما .. لمّا .. الله اعلم !
بدأت الشمس ترسل أولى خيوطها .. نادت سهير أحد الجيران ليكسر باب الحمام ،
فكسره وعاد مسرعا ، فخرج فواز من الحمام كعصفور فلت من قفصه ، فتمتمت سهير
بأرق : حمدا لله على سلامتك ، هيا ننام .. فحملق بها فواز وضمها إلى صدره
بعد أن أخذها بين ذراعيه ، وزعق زعقة قوية مدهشة : ننام .. أي نوم .. قال
نوم .. الآن بدأت ليلة الزفاف .