جدلية العمارة و اللغة الأدبية و الجمالية
لولا السجن لما كانت الفرصه متاحة لرفعة الجادرجي أن يكتب كتابه المهم
«الأخيضر والقصر البلوري " هذا ما نوه عنه في مقدمة الكتاب، في حين أن
الفترات السابقة شهدت هي الأخرى ملاحقة له، وخضع الى عدد من لجان التحقيق
وتعرض للفصل والتجميد، وكان في كل مرة منها ينصرف الى العمل والقراءة
والتأمل والبدء في التخطيط لمشاريع أخرى، الا أنه في سجن ابي غريب، وفي
فترة صعبة من تاريخ العراق، حيث يصبح السجن طريقا الى الاعدام أو الموت
البطيء، تحفز رفعة الجادرجي ليكتب كتابه الوثيقة، الكتاب الذي يفصح عن بنية
عقلية جدلية تجعل من مجال العمارة مدخلا آمنا لدراسة المجتمع العراقي
وتركيبته الاجتماعية والنفسية.
-1-
وكأن رفعة في كتابته للأخيضر والقصر البلوري قد جعل من السجن مكانا
للاستعادة، ومجالا لتجميع الذاكرة وانهاضا لما هو يومي في عمله المتسع
وتحويله الى لغة حسية - ثقافية.
فكانت الكتابة تحررا للذاكرة وللجسد معا، من هنا أصبح الاشتغال بالعمارة
وفنونها مدخلا لرؤية التحولات السيكولوجية للسلطات وللناس معا، وحاول عبر
الخبرات المحلية للبنائين والنجارين والفلاحين أن يولف طريقة فنية تجتمع
فيها الخبرة الآنية لهؤلاء مع خبرة الماضي في بنية الشكل المكاني للعمارة
أو لأجزاء من تراكبيها المعقدة والصعبة، واذا كانت الكتابة فعلا لتحرير
الذات وتحديا للسجان. فإن الكتاب نفسه يصبح أحد أهم الشواهد المعمارية في
فن التجربة العملية لمهندس ينحدر من أسرة وطنية ومارس عبر تواريخ عدة مهنته
بوضوح وبدقة، وكأنه يقول لنا ضمنا إن التاريخ الحقيقي لمكونات المجتمع
العراقي لا يكتب الا من خلال الخبرة الميدانية في أنشطته العملية، وقاريء
الكتاب يشعر أن ما يعنيه بالنظرية الجدلية للعمارة ليست الا الرؤية
الميدانية المشغولة بالتطبيق المخطىء والمصيب، مع الانتباه العميق لحركة
المجتمع وهو ينمو في اتجاهات مختلفة دون أن يلفي كلية فعل التأثر بالتيارات
الحديثة في العمارة الأوروبية مع محاولة نقد منهجي للموروث في أشكال
العمارة التراثية وأخذ الجانب العلمي والمتقدم منه واخضاعه تقنيا الى
السياق المعماري الحديث. ان هذه النظرية التي تحولت الى مجال تطبيقي واضح
تفصح عن رؤية فكرية أشمل، تلك التي تتعلق بالجانب الاقتصادي فالمهندس
المعماري الحديث اذ يستفيد من بنية البيئة مناخيا وجغرافيا وأداتيا وخبرة،
انما يحاول أن يجعل من هذه المواد الخام والأولية أرضية يشيد من خلالها
وفوقها تكوينات معمارية جمالية ونفعية معا، ومستطلع انجازات رفعة وعدد من
المهندسين المعماريين العراقيين يجدها قد استنطقت المكونات المحلية الى
الحد الذي بدت خصوصيتهم في هذا الانجاز أو ذاك هي الهوية الفنية والفكرية
لهم. وهذه الميزة الثقافية الكبيرة واحدة من تحويل فعل الهندسة المعمارية
في العراق الى رافد ثقافي كبير، ليس عل مستوى الشكل وجماليات البناء، وانما
في استخدام المادة الخام وفي وضع المفهومات والآراء الشخصية موضع تطبيق
يوازنون به بين الدراسة والخبرة المعملية المحلية. وهكذا يدخل فن المعمار
من إطاره التكويني - العياني والكتلي الى اطار اللغة الأدبية والجمالية،
ويصبح هذا الفن رافدا لكل ذي توجه أدبي. أقول ذلك، واعتبر أن العمارة هي
"المكين " في المكان، كما ينوه الفلاسفة العرب عن "اشغال المكان ". ولأن
العمارة العراقية المنحدرة من التراث والحاضر معا قد رافقت نموا حضريا
معينا، وأعني به "ثقافة المدن " و"الارتباط بين التطور والسلطة ". فقد
جعلها المعنيون واحدة من الشواهد الحضارية التي نقيس في ضوئها ليس تطورها
الذاتي فقط، وانما بناء الانسان العراقي نفسيا واجتماعيا، وأعني بالبناء
هنا، هو مجايلة تطور العمارة في العالم، وفي الوقت نفسه تجديد رؤيتنا الى
التراث العربي - الاسلامي مع المحافظة على أغراضها النفعية والجمالية.
-2-
جدلية البيت
ليس من الهين أن تلم بطروحات رفعة الجادرجي العملية والجمالية ففي الكتاب
الكثير والكثير من الموضوعات التي تستحق وقفات تأمل ودراسة، منها مفهومه
للبيت البغدادي
وعلاقة هذا المفهوم بالموروث، فهو قد اعاد اكتشاف قيمة الحوش في الف ليلة
وليلة ثم استفادته من البيت المغربي خاصة في تراكبيه: الاسلاك والقضبان، ثم
معاينة الواقع العراقي محليا وخصوصية الرواق والباحة والمشبك. كل هذه
المفردات قد وضعت في سياق معاصر لحل مشكل البيئة المحلية أي استعمال مواد
جديدة عن معرفة تتلاءم واستحداث الحلول التطورية لمتطلبات البيئة اجتماعيا
ووظيفيا. اضافة الى تنمية احساسنا الشعبي بألفة مكانية تعيد للساكن أحلام
يقظة دائمية من خلال الارتباط بالماضي، بيت الاجداد ومن ثم نقل أهم مكوناته
الى البيت المعاصر - ثم التطلع الى المعاصرة - التكوين الجمالي لمدينة
ناهضة، وهذا ما دفعه لأن يعمل توازنا هندسيا وجماليا بين باطن الدار، بوصفه
موروثا عن الباحة القديمة كجزء من بناء ديني يرتبط بالجنة والنار، وبين
خارج الدار، بوصفه تكوينا جماليا يخضع لقيم الفضاء والبيئة والعيانية، وكان
من خلال هذا التوازن المنهجي أن جعل مفهوم الاجتماعية ينمو في باطن الدار
كما ينمو في خارجها، ولعل هذه الظاهرة الجدلية في التوازن بين موقعين آتية
اليه من المحاورة السياسية والفكرية التي كانت تضع مجمل أفكارها حيز
التطبيق ليس على مستوى العمارة وانما على مستوى الفن التشكيلي والفن
المسرحي لذلك نجده يقول "للفن وظيفة اجتماعية لا يمكن تجنبها وعلى الفنان
أن يكون مدركا ليتخذ الموقف المناسب شريطة الا ينزلق وينجرف ويتناسى
التقنية " ويقول أيضا "ضرورة استحداث فن عراقي حديث متأثر بالمجتمع
العراقي" ص 45 ومن الواضح أن محمود صبري الفنان أحد أهم الفنانين الذين
توافقت رؤيتهم مع ما أنجزه رفعة الجادرجي في هذا المجال. وهذا مدخل
للمصاهرة بين فن التشكيل والعمارة.
والبيت البغدادي لدى رفعة هو التكوين الجمالي - الاجتماعي، والذي من خلاله
استطاع أن يدمج في بنائه: النقوش الاسلامية. وهذا يعني أن المعرفة بزخارفها
تعني معرفة بأصولها الدينية والمثيولوجية، كمحاولة لتجديد الشكل الاسلامي
للعمارة. ثم اضفاء الطابع الذاتي على كل ذلك من خلال الخطوط والأحيان
الجديدة التي يتطلبها التصميم الجديد المنطلق من ضرورة وجود الحلول الكفيلة
بتوليد عمارة ذات طابع عراقي. ص 47.
ويستمر البيت حضورا، وفاعلية مع رفعة الجادرجي، سواء انشغل بتصميم عمارة
كبيرة أو نصب تذكاري، فالبيت البغدادي كوحدة معمارية كان أشبه بالقيمة
المركزية، والبؤرة المعمارية التي أدخلها كلها أو أجزاء منها في أي تشكيل
أو تصميم معماري آخر، فعندما اكتشف الرؤية الجديدة الخاصة به في بناء
الجامع وبخاصة في مجال الزخرفة، توصل الى موقف يوحد بين "العملي الواقعي"
و"الفني الجمالي " ص 64. وهنا بدأت أولى خطواته في الابتعاد عن المؤثر
الأجنبي والدخول الى التراث الاسلامي من خلال فن التجريد الحديث والزخرفة
الاسلامية. أي الدمج بين ما هو محلي وعالمي. من خلال توظيف الأشكال الشعبية
= الهلال عند جواد سليم - والمربع عند موندريان، وجمعهما في إطار تراكمي
غير محسوس ينم عن معرفة جمالية بالتشكيل عبر مفردات متنافرة تاريخيا،
منسجمة، جماليا،ومن هنا نراه عندما يعود لتصميم العمارة لاحقا يعتمد
الجوامع والأزقة كخلفية بغدادية -ولننتبه الى مفردة بغدادية - لأعماله ص
65. الجوامع والأزقة: الدين والحياة الشعبية. الجامع كمكان للعبادة والبيت
كمكان للألفة والهناءة والسكن، ومعهما سوية بنية الزقاق الطولي الذي تتجاور
في أعلاه البيوت لتتعاور بشناشيلها وكأنها أجهزة اتصال سمعية - بصرية تسمح
بمرور الضوء العازل لأجزاء من الشارع الضيق، بمثل هذا التكوين الجمالي
الفائر بالشعبية والتجريدية معا. يستخلص تكوينا جماليا لبيت عراقي عام وليس
لبيت عراقي خاص. ولعل تجارب المهندسين المعماريين العرب والأجانب - حسن
فتحي مثلا، واحدة من الشواهد الثقافية المبنية على الاقتصاد بالمادة
وبالوظيفة، لعل بيت منير عباس أحد الأمثلة التي يكثر رفعة من الاستشهاد
بها، وبملاحظة بسيطة يوضح رفعة أن إنزال الشكل المائل فوق التكوين الأفقي
الشاقولي يعني مزاوجة بين موروث اسلامي، وخبرة موندريان، وبالفعل نراه في
الفصل الرابع من الكتاب يكثر الاستشهاد بنماذج من المهندسين المعماريين
الأوروبيين: دستيل - يبتر فان دررو، جيوبونتي اضافة الى فنانين تشكيليين.
-3-
لم يقف تصور رفعة الجادرجي عند بناء جزئيات: بيت- محل- عمارة - سوق - نصب،
فالتعامل مع الجزئيات يجعل المعماري أو أي فنان مشتغل جزئيا وخاصا، وقد
يكون متميزا رذا خيال ونظرة، وإنما التعامل مع الجزئيات هو مدخل للتعامل مع
بنية اجتماعية أشمل، هو هدف أي معماري يمتلك نظرة متقدمة، وهذا ما فعله
رفعة عندما زاوج بين مفهومي: "العراق لابد وان يتطور، والعمارة لابد وأن
تتطور أيضا. لذلك لا تكون بنية العمارة الجديدة الا من خلال بنية المجتمع
الجديد" الا أن هذا المفهوم الكلي والشامل نراه يصطدم بتقلبات سياسية
ومعمارية متخلفة، تؤدي بالتالي الى التهديم وقلب المفاهيم، وهذا ماحدث كما
يروي في الكتاب أكثر من مرة، ومن الأفكار الجميلة في هذا الصدد، الكيفية
التي تتحول بها الرسوم الى واقع معماري، هنا يعيد رفعة تركيب المفاهيم
الأدبية والفنية لصياغة تجسيد مكاني، ومن خلال هذه المصاهرة المعمارية
الفنية ينهض المهندس ليس رؤيته لمفهوم التطور وانما ليجعل من المشاريع
الشخصية والمحددة بقطعة قماش مثلا، كيانا معماريا والمعروف أن الفن
التشكيلي العراقي، اذا ما درس من خلال علاقته بفن العمارة سيجد مجالات رؤية
نقدية أكثر دقة من تلك التي تعتمد مقولات نقدية تشكيلية بحتة. لعل نصب
الحرية لجواد سليم، واحد من الشواهد التي يتزاوج بها المعماري بالتشكيلي
عبر مصاهرة حضارية بين الموروث والمعاصر. ولما كان انساننا لم يتطور بما
فيه الكفاية، أي لم تصبح التنمية الثقافية والفكرية متسعة لقطاعات واسعة من
المجتمع، لاقى المهندس المعماري مشكلة الاستيعاب للجديد، حتى لدى
المثقفين، وهذا ما جعل رفعة يتنصل من انجازاته في بعض البيوت التي بناها
لأصدقائه، فكيف اذا كان الأمر يتصل بالمجتمع ككل، والبغدادي - بوصفه صرة
العراق - بوجه خاص. من هنا جاء اهتمامه المتزايد بالحاجة النفعية، أي تلك
الحاجة التي تتوالد من العلاقة بين الانسان والطبيعة، وبما أن الفن، الفن
بوجه عام، والفن المعماري -التشكيلي بوجه خاص لا يتطور خارج الاطار النفعي،
فإنه يمثل الموقف "اللانفعي" ص 84. والموقف اللانفعي هو الموقف الجمالي
الخالص حسب تعبير هيجل.